الإعجاز والإيمان
لما جمع فرعون كبار السحرة في مصر وحشدهم لميقات يوم معلوم ووعدهم بالأجر الجزيل والقربى من عرشه الكريم واجتمع الناس ليشهدوا المباراة بين السحرة وبين نبي الله موسى عليه السلام، (قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ . فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ . فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ . فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ . قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ . رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ . قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ . قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ . إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) الشعراء: 43-51.
لقد علم السحرة، وهم الخبراء في السحر، أن هذه الآية لا تكون من صنع موسى عليه السلام لأنها فوق طاقة البشر، فخروا لله ساجدين. ثم انطلقت ألسنتهم بكلمة الإيمان (قالوا: آمنا برب العالمين . رب موسى وهارون). فخلعوا عن أنفسهم عبادة فرعون. وقد كانوا منذ لحظات جنوده الذين جاءوا لخدمته وانتظروا أجره واستفتحوا بعزته. ولهذا جُنَّ جنون فرعون، فلجأ إلى التهديد والوعيد. (قالوا: لا ضير)! لا يضرنا شيء بعد أن عرفنا الله رب العالمين. لا ضير في تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف. لا ضير في التصليب والتعذيب. لا ضير في الموت والاستشهاد. لا ضير. إنا إلى ربنا منقلبون. وليكن في هذه الأرض ما يكون. فالمطمع الذي ننشده ونرجوه: أن يغفر لنا ربنا خطايانا جزاء أن كنا أول المؤمنين وأن كنا نحن السابقين.
يا لله! يا لروعة الإيمان. إذ يشرق على الضمائر، وإذ يفيض في الأرواح، وإذ يسكب الطمأنينة في النفوس، فإذا كل ما في الأرض تافه حقير! وهذا هو التوحيد! ألا ترى مع الله أحداً. لقد استفتح السحرة مباراتهم مع موسى عليه السلام باسم فرعون وعزته. لكنهم لما رأوا الآية الكبرى التي أيد الله عز وجل بها نبيه موسى عليه السلام، لم يروا مع عزة الله عزيزاً، ولم يروا مع حكمة الله حكيماً، ولم يروا مع قدرة الله قديراً، فأكرمهم الله عز وجل بالشهادة. كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: أصبحوا سحرة فأمسوا شهداء. وهذا هو الإيمان. لا ينفع إلا إذا سرى في جسم الإنسان مجرى الدم من العروق. ولا خير بغير هذا!
لقد كانت عصا موسى عليه السلام معجزة كبرى أيَّد الله عز وجل بها نبيه الكريم ليشهد له على صدقه في رسالته. وإن المعجزة التي أيَّد الله عز وجل بها نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم ليشهد له على صدقه في رسالته هي القرآن العظيم. وإذا كانت عصا موسى عليه السلام معجزة من تسع معجزات، فإن كل مقدار من مقادير الإعجاز في القرآن العظيم كعصا موسى أينما ضربت فجرت من المعاني ما من شأنه أن يُحدث في قلب قارئها وسامعها ما أحدثت عصا موسى في قلوب السحرة. ومقدار الإعجاز عند العلماء ثلاث آيات. إذا قرأت ثلاث آيات من كتاب الله عز وجل فإنك تكون بإزاء معجزة. ومن شأن هذه المعجزة أن تُحدث في قلبك ما أحدثت عصا موسى في قلوب السحرة.
وإلى هذا المعنى أشار أهل الخبرة من علماء النفس، إذ قالوا: إن انضباط الضمير البشري يتعلق بثلاثة أمور: بالإدراك وبالانفعال وبالسلوك! كذلك، وأن الذي يدرك الإعجاز فلا جرم عليه أن ينفعل. وهذا ما فعله السحرة عندما رأوا عصا موسى عليه السلام تنقلب إلى حية تسعى. لقد خروا لله ساجدين! فهذا انفعال! ثم ماذا كان بعد الانفعال؟ تغير سلوكهم، إذ خلعوا عن أنفسهم عبادة فرعون، وأقروا لله عز وجل بالوحدانية.
فأي أثر يُحدث القرآن العظيم اليوم في حياتنا وفي سلوكياتنا؟ القرآن الذي يقول عنه رب العزة جل وعلا: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا) الرعد: 31. إنه الكتاب الذي لو نزل على الجبال الراسيات لسُيِّرت، ولو نزل على الأرض الصلبة لقطعت، ولو نزل على الموتى في قبورها لتكلمت!
أفيليق بعد هذا بالأحياء والعقلاء أن تظل قلوبهم صلدة لا تؤثر فيها حكم القرآن ومواعظه؟ ولا تهزهم طوارقه وقوارعه؟ وهم يتلون كتاب الله عز وجل صباحاً ومساءً، ويجدون فيه من القوارع ما يطرق الحس البشري بإنذار واحد: أن اصحوا، أفيقوا، تيقظوا، التفتوا، انظروا، تأملوا، تفكروا، تدبروا: إن هنالك إلهاً. وإن هنالك تدبيراً. وإن هنالك تقديراً. وإن هنالك ابتلاء. وإن هنالك بعثاً ونشورا. وإن هنالك حساباً وجزاء. فأين تذهبون؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق